تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 68 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 68

68 : تفسير الصفحة رقم 68 من القرآن الكريم

** وَمَا مُحَمّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفإِنْ مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىَ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مّؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ * وَكَأَيّن مّن نّبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبّ الصّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم, نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل, ورجع ابن قميئة إلى المشركين, فقال لهم: قتلت محمداً, وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه, فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, وجَوّزوا عليه ذلك, كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام, فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال, ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه, قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل, فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ, فقاتلوا عن دينكم, فنزل {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} أي رجعتم القهقرى {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه, واتبعوا رسوله حياً وميتاً. وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع, وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه, تلا هذه الاَية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير, حدثنا الليث عن عقيل, عن ابن شهاب, أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها, أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه, أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة, فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة, فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى, ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتبت عليك فقدمِتّها, وقال الزهري: حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يحدّث الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر, فقال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ـ إلى قوله ـ وسيجزي الله الشاكرين} قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الاَية حتى تلاها عليهم أبو بكر, فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها, وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعَقِرتُ حتى ما تقلني رجلاي, وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد, حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله, والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت, والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه, فمن أحق به مني ؟ وقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجل} أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له, ولهذا قال {كتاباً مؤجل} كقوله {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} وكقوله {هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده} وهذه الاَية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال, فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه, كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن صُهبان, قال: قال رجل من المسلمين وهو حُجْر بن عدي: ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة ـ يعني دجلة ـ {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجل} ثم أقحم فرسه دجلة, فلما أقحم, أقحم الناس, فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا. وقوله {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها, ومن يرد ثواب الاَخرة نؤته منه} أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له, ولم يكن له في الاَخرة نصيب, ومن قصد بعمله الدار الاَخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا, كما قال تعالى: {من كان يريد حرث الاَخرة نزد له في حرثه, ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاَخرة من نصيب} وقال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الاَخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكور} ولهذا قال ههنا {وسنجزي الشاكرين} أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والاَخرة بحسب شكرهم وعملهم, ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد {وكأين من نبيّ قاتل معه ربيون كثير} قيل: معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرأوا {قتل معه ربيون كثير} فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم, وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل, قال: ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك, لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله {فما وهنو} وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا, ثم اختار قراءة من قرأ {قتل معه ربيون كثير} لأن الله عاتب بهذه الاَيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل, فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال, فقال لهم {أفإن مات أو قتل} أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و{انقلبتم على أعقابكم} وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير, وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر, فإنه قال: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم, وما ضعفوا عن عدوهم, وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم, وذلك الصبر {والله يحب الصابرين} فجعل قوله {معه ربيون كثير} حالاً, وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه, وله اتجاه لقوله {فما وهنوا لما أصابهم} الاَية, وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره, وقرأ بعضهم {قاتل معه ربيون كثير} قال سفيان الثوري, عن عاصم, عن زرّ عن ابن مسعود {ربيون كثير} أي ألوف, وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن {ربيون كثير} أي علماء كثير, وعنه أيضاً: علماء صبر أبرار وأتقياء. وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل, قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الربيون بفتح الراء, وقال ابن زيد: الربيون الأتباع والرعية, والربانيون الولاة. {فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانو}قال قتادة والربيع بن أنس {وما ضعفو} بقتل نبيهم {وما استكانو} يقول: فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله, وقال ابن عباس {وما استكانو} تخشعوا, وقال السدي وابن زيد: وما ذلوا لعدوهم, وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة: أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم {والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} أي لم يكن لهم هجير إلا ذلك {فآتاهم الله ثواب الدني} أي النصر والظفر والعاقبة {وحسن ثواب الاَخرة} أي جمع لهم ذلك مع هذا {والله يحب المحسنين}.